وکالة أنباء الحوزة - بمناسبة ذکری شهادة الإمام الحسین علیه السلام کتب عبدالرحمن أبوسنينة (اعلامي فلسطيني) تدوینة حول تجربته الأولی لزیارة کربلاء وعبّر عن أحاسیسه تجاه هذا المشهد وفیما یلي نص التدوینة التي قدّمها لوکالة الحوزة:
تجربة استحضار الفاجعة وعيش الاحساس بالحسين (ع)
في بلد الذكريات ومشهد كربلائي
الله وحده يعلم كنه الحكمة من زيارتي للعراق قبل أيام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة من بدء الغزو (الانجلو أمريكي) عام ۲۰۰۳، في جولة سياحية قصيرة لعدة أيام، حيث المعالم، والآثار التاريخية الخالدة، وعلى رأسها مراقد أهل البيت المحمدي عليهم السلام في بغداد والنجف وكربلاء وسامراء ..
فجر العاشر من المحرم ۱۴۲۳ هجرية وصلت لأول مرة مدينة كربلاء ووقعت عيناي ذاك الصباح على قبة حرم الحسين (ع) في لحظات هي من خارج العمر، حيث تحلق الروح وتعيش تطهيرا للنفس وانت تستحضر الحسين (ع) الشهيد وعذابات أطفاله وعياله..
في تلك الزيارة، كتبت كثيرا من الذكريات خارج هذه المقالة حيث الأيام الأخيرة لنظام صدام، بينما أثبت هنا ما شاهدته في كربلاء، ونحن نتفيأ ظلال الأحزان على أبواب عاشوراء، يومها عام ۲۰۰۳ وجدت نفسي في تجربة كربلائية مصغرة، فما أن أنهيت زيارة سبط الرسول الشهيد، وأردت قصد الفندق القريب حتى بدأت أسمع صوت جموع تتقدم في حالة شعائرية جماعية يهتفون بشعار:"أبد والله ما ننسى حسيناه"،، مع أن التعبير عن مظاهر العزاء في العهد الصدامي يمكن بدون مبالغة ان يؤدي بفاعله الى الاعدام والمقابر الجماعية التي شاهدها العالم اجمع بعد سقوط النظام.
من أعلى البنايات وشرفات الفنادق المحيطة بالحرم الحسيني تجمهر الناظرون؛ أدركت بأن الحدث ليس اعتياديا، فبمجرد اقتراب هذا التجمع اخذ الكثيرون بالفرار حيث يتقابل النادبون مع رجال الأمن بينما ساقني الفضول للعودة مباشرة نحو الحرم لأراقب ما يحصل، اقتربت ودخلت ساحة الحرمين(ما بين ضريح الحسين (ع) والعباس) حيث تجمع النادبون، كان جنود الأمن ببزاتهم الزيتونية وأسلحتهم قد شكلوا ما يشبه الصف المستقيم مقابل المسيرة والنادبين المشاركين فيها، وكنت في تأمل لهذه اللوحة الفريدة، وهذا المشهد الضارب في أعماق التاريخ الإسلامي، والحاكي عن قصة الظلم والاضطهاد، وسلطة القوي المستبد في مقابل المستضعف المغلوب على امره.
كان الحزبيون يمنعون الناس من الدخول إلى التجمع، أما أنا فقد اقتربت كثيرا من يسار المشاركين الذين كانوا يتوجهون صوب مقام أبي الفضل العباس بن علي، وأمام استفزازات وغلظة فدائيي صدام، وبحركة عفوية بدأ المشاركون بإلقاء الأحذية وما تقع عليه الأيدي باتجاههم، رأيت احد الجنود يطلق النار من مسدسه فانقض عليه احد الشباب ممسكا بيده وألقاه أرضا، سمعت لحظتها أطلاقا للنار، وأغلب الظن أن نفس الشاب قد أطلق النار على رجل الأمن ثم شاهدت بقية البزات الزيتونية تفر هاربة باتجاه ضريح العباس، ولبعض الوقت حجبت الجموع المشهد، بعدها رأيت العسكري ملقى على الأرض ولعله جريح أو أثقلته الركلات، سحبه احد زملائه، وبعدها بدا إطلاق النار من عدة جهات، ورأيت المذعورين هائمين على وجوههم، وأغلبهم من النساء وكبار السن..
خرجت مع من خرج نحو الشارع العام وبدأت قوات إضافية بالحضور، ثم أغلق الحرم؛ بعد سقوط عدد من الشهداء، ناهيك عن الجرحى والمعتقلين، عقب ذلك تابعت وسائل الاعلام والمواقع والمنتديات الاخبارية، واستعجبت كيف انها لم تنقل ما جرى، تعتيم مريب على كل ما كان يقترفه النظام بحق الشعب العراقي إبان تلك الحقبة الصدامية.
الاحساس وعيش الحسين (ع)
سألني بعض أصدقائي: لماذا أن الملايين تزور الحسين (ع) بهذا الشغف حتى من غير المسلمين؟ واحاول أن أجيب من وحي تجربتي واحساسي: فهذه الفعالية الروحية لمن ذاقها عن وعي وارادة، اقتراب وجداني من الأنوار النبوية وهروب من الظلم اليزيدية بصورها المعاصرة، وعندما تكون الزيارة مع التوجه والحضور تتحول من صورة فكرية أو أمنية سياحية إلى صورة حسية، تشعرك بالحسين، شعورًا أشبه ما يكون احساسا تتماهى معه، تمشي إلى كربلاء وأنت تستحضر مشي الحسين (ع) إلى مصرعه، تستحضر مشهد تلطخ بدن الحسين (ع) بدمه، وأشلاء جسده وتراب كربلاء، تحيا كربلاء حياة مع الاحساس والشعور، ثم تتوقف عند رأسه الشريف وقد عشت الحسين (ع) بكل ذرات وجودك، وتقرأ مع ملايين الزائرين: أشهد أنك قُتلت مظلومًا، أشهد أن دمك قد سكن في الخلد، أشهد لقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش، مع أظلة الخلائق، وبكتكم السماء والأرض، وسكان الجنان، والبر، والبحر..
في طريق الشهادة الواعية كاملة الأهداف
مذ ذكرياتي تلك في كربلاء، وأنا أسعى لفهم الحسين (ع) كقوة ملهمة لكل مستضعف في وجه الظالمين، فرغم كل ممارسات ارهاب العصابة الصدامية اللاإنسانية التي حكمت العراق، إلا أن الشعب المسحوق بقي يستلهم من الحسين (ع) القوة والتحدي، فهو الرفض لكل الظالمين على اختلاف أشكالهم، وشاهدنا كيف بالحماسة الحسينية، وفتوى المرجعية استطاع العراقيون في السنوات الأخيرة فرملت مخطط داعش والفوضى الكاملة في منطقتنا، اعتمادا على الشباب الحسيني المضحي من ابناء العراق.
لقد استمر شغفي بما كتب عن الحسين (ع) وكربلاء، واستلهمت من فكر الشهيد محمد باقر الصدر، أن الحسين (ع) خرج يطلب غايته النهائية في الاستشهاد، ولكن لماذا؟ لإحداث هزة عنيفة في ضمائرالناس والمسلمين خاصة، المبتلين بمرض ضعف الإرادة في ذلك الزمان الغابر، بل وكانوا يعيشون أخلاقية الهزيمة، فلا تقدرالجماهير رغم ايمانها النظري الصحيح أن تترجم احاسيسها الى عمل موافق، واستمرار هذا المرض وتفشيه في الأمة سيؤدي الى موتها وانهيار كيانها، فالعلاج اذا لن يكون الا باحداث هزة رهيبة لضمير الأمة ووجدانها، وهذه الرجفة العظيمة لا تحدث الا بتضحية عظيمة من مضح أعظم، وهكذا سيكون ابن بنت الرسول وريحانته من الدنيا هو الضحية التي سوف تهز الضمائر، فكانت شهادته منعطفا بارزا وقويا في وعي الامة، حرك الحياة في الضمائر المريضة، وحدثت الانتفاضات والثورات من بعده الى أن تقوض حكم بني امية، وظل دم الحسين (ع) منذ استشهاده والى اليوم محركا للثورة وملهما للانسانية في كل حين.
زعيم الاصلاح في الاسلام
لقد تعلمت من الحسين (ع) أن أقف مع الحق الذي من أجله دخل حفيد النبي ذلك الاختبار الالهي، وتألق فيه، وقدم في هذا السبيل كل وجوده إلى آخر مراحل الاختبار، لحظة صار(الذبح العظيم) فحافظ على قيم الخير وموازين الحسن والقبح، وكما يقول المفكرالمسيحي انطون بارا في كتابه(الحسين (ع) في الفكر المسيحي): (.. وكم هو حريّ بنا نحن البشر الضعفاء لأن نقف بقلوب حزينة، وعيون دامعة أمام أحداث هذا الذبح الذي لم تسجّل الأديان والتواريخ ما يعدله سموّ معنى، وسموّ ذات، وعلوّ شأن، فهو ذبحٌ فدى البشريّة جمعاء، وصان دين الله الواحد من الانتهاك، وهو ذبيح أرسى للبشريّة مجدها الذي ترتع في نعمته الآن وإلى أبد الدهور، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره..)ا.هـ.
ولم يستطع يزيد بن معاوية أن يشوه الاسلام حتى النهاية كما كان يشتهي اشياخه ببدر الذين جندلهم فقار علي بن ابي طالب، وخلد الحسين (ع) في تاريخ الاسلام زعيم الاصلاح، وكل خير فينا حسيني البقاء بامتياز، بل له قدم السبق في تشذيب الفكر الانساني، ورفع سقف التضحية من أجل المبادى الحقة الى آخر سماء، انه بحق مصباح الهدى وسفينة النجاة.
في ايران وجدت الحسين (ع)
تلك التجربة في كربلاء قبل أكثر من عقد ونصف، مضافا الى تجربتي الاستكشافية الروحية في الجمهورية الاسلامية، ومن محطاتها مشاركتي في جنازة الشهيد سليماني الملايينية، اذ كانت ملتقى حسينيا لعامة الشعب الايراني، بل لعشاق الشهادة الحسينية في كل مكان، الذين رددوا شعار الحاج قاسم: بأننا أمة الشهادة، أمة الامام الحسين.. ومن كل ذلك أحاول تجاوز العقد المذهبية والطائفية، فأسعى أن أعيش فلسفة الشعيرة كما أرادها الاسلام، أن تتحول من الصورة العقلية، والايمان النظري أو مجرد المشاهدة العابرة الى الصورة الاحساسية (رمي الجمرات في الحج مثالا) عندما تسمع النعي الحزين على بضعة النبي الأمين، أو تنغمس في أشكال العزاء وفعالياته المتنوعة، المأتم، الموكب، الدمعة، الصرخة، فتعيش الحسين (ع) بكل ما تستطيع من احساس واقتراب...